توظيف

الشباب ومشكلة التوظيف

الشباب ومشكلة التوظيف

تتحقق محاربة البطالة من خلال إسهام الجميع بما فيهم الشباب - كل حسب طاقته - في الإنتاج الاقتصادي العام، ومن ثمَّ يستمتع مع الجميع أيضاً بمغانم الكسب؛ فإن البطالة في الشباب مع كونها عبئاً اقتصادياً يضر بمستوى الإنتاج العام، ويستهلك قوى المنتجين العاملين : فإنها مع ذلك من أوثق العوامل الاقتصادية صلة بالجريمة عند الشباب إضافة إلى أنه من أشد العوامل الاجتماعية تأثيراً في مبدأ الزواج والعلاقات الأسرية، ومن أعظم العوامل ضرراً على الناحيتين الصحيَّتين العقلية والنفسية؛  ولهذا حاربها الإسلام في كل صورها ولو كانت بحجة العبادة،  حتى إن عروة بن الزبير رضي الله عنهما لما سُئل عن أشرِّ ما في الدنيا لم يجده في أمر أكثر منه في البطالة؛ ولهذا يكرهها الشباب عموماً ويعانون من أزماتها ضيقاً وشدة، حتى إنهم من فرط بغضهم لها، وأليم معاناتهم منها يفضلون - في كثير من الحالات - العمل أياً كانت صفته ومشقته على البطالة والخمول، خاصة  المتزوجون منهم، فإن وجود الزوجة في حياة الشاب من أعظم أسباب انطلاقته الاقتصادية، وحسن أدائه في عمله؛ فقد لُوحظ أن ولاء الموظفين المتزوجين لعملهم أكبر من ولاء غير المتزوجين، ثم إن الزوجة في قدر الله تعالى- مع ما يظهر من كونها عنصراً اجتماعياً مستهلكاً - فإنها مع ذلك من أعظم أسباب الرزق التي يجنيها الشباب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال".

وقد مارس رسول الله r بالفعل - باعتباره قائداً للأمة - مسؤولية توفير العمل المنتج للمحتاجين، وذلك حين أتاه رجل يسأل، فوجَّهه الرسول r لبيع بعض متاع بيته، وأعانه على ذلك، ثم أمره أن ينفق بعض ذلك المال على أهله،  ويشتري بالبعض الآخر فأساً يحتطب بها، ففعل الرجل، وجعل يحتطب ويبيع حتى فتح الله عليه. وفي هذه الممارسة الواقعية من رسول الله r دلالة على وجوب تحمل الدولة مسؤولية توفير العمل للمحتاجين القادرين؛  فإن غالب الشباب لا يعرفون سبل توفير العمل، مما قد يوقعهم في سوء اختيار المهن، أو الانخراط في عمل غير مشروع، أو البطالة والفراغ، فهم - في كل الأحوال- في حاجة إلى الإرشاد المهني السليم، حتى يتمكنوا من القيام بأنفسهم، وإعالة أسرهم.

في ظل الأوضاع المالية الصعبة لكثير من الشباب، خاصة في مراحل الدراسة الثانوية والجامعية حيث تزداد الالتزامات وتقل المخصصات، فإنه بات من الضرورة بمكان نشوء جيل جديد من الشباب أكثر وعيا وإدراكا لمتطلبات سوق العمل واحتياجاته للحد من البطالة والتفنن في أساليب تسويق الخبرات والكفاءات، حيث تفشل العديد من القنوات التي تنشئها بعض الدول في إيجاد آليات كفيلة بتوفير فرص العمل للشباب، وعند مراجعة واقع كثير من الشباب في بعض دول العالم، حيث اعتاد الطلاب وغيرهم من ذوي الأعمال ذات الدخل المتدني العمل جزئياً في الشركات والمؤسسات بل والمطاعم، يذكر أن كثيرا من الطلاب العرب أثناء دراستهم في الخارج يحصلون على قوت يومهم من العمل على غسل الأطباق أو ممارسة عمل "النادل" إلى جانب دراستهم أو أعمالهم الأخرى.


لذلك فإن الشاب مطالب بتغيير نظرته حول الوظائف، والتكيف على ماتمليه حاجات السوق ليتوافق توجهه مع التغيرات المحلية ولتحسين مستوى الأداء والإنتاجية، ولكي يتحقق ذلك الأمر لابد من تبني المرونة في ممارسات العمل، والتي قد تشمل (العمل الجزئي، المشاركة في أداء العمل، مرونة في ساعات العمل ونوعية العمل ومكان العمل، المرونة في عقود العمل، المرونة في الرتب والمكافآت…)
وقد أثبتت تجارب العديد من دول العالم المتقدم أن تطبيق المرونة في ممارسات العمل آخذ في التزايد خلال فترة التسعينيات ميلادية، وحقق فوائد اقتصادية واجتماعية، ليس فقط لأن المرونة في ممارسات العمل تحسن الأداء والإنتاجية، ولكن ينظر لها بشكل متزايد كوسيلة لخفض مستوى البطالة، وكأداة للتوفيق بين احتياجات العمل والحياة العائلية.
وفي الجملة فإن أوضاع العمل المتأزمة تستدعي وجود شباب يتسلح بروح المبادرات والأفكار، سواء فيما يتعلق باختيار التخصصات المناسبة، أو فيما يتعلق بإنشاء مشاريع تجارية شخصية بمشاركة عدة أطراف تساعد في دفع عجلة التقدم التنموي إلى الأمام.

البطالة مشكلة اقتصادية ، كما هي مشكلة نفسية ، واجتماعية ، وأمنية ، وسياسية ، وجيل الشباب هو جيل العمل والإنتاج ، لأنه جيل القوة ، والطاقة ، والمهارة ، والخبرة .
فالشاب يفكّر في بناء أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية بالاعتماد على نفسه ، من خلال العمل والإنتاج ، لا سِيَّما ذوي الكفاءات ، والخِرِّيجين الذين أمضوا الشطر المهم من حياتهم في الدراسة والتخصص ، واكتساب الخبرات العملية .
كما ويعاني عشرات الملايين من الشباب من البطالة ، بسبب نقص التأهيل ، وعدم توفّر الخبرات لديهم ، لتَدنِّي مستوى تعليمهم وإعدادهم من قبل حكوماتهم ، أو أولياء أمورهم .
وتؤكّد الإحصاءات أنَّ هناك عشرات الملايين من العاطلين عن العمل في كل أنحاء العالم من جيل الشباب ، وبالتالي يعانون من الفقر والحاجة والحرمان ، وتخلف أوضاعهم الصحية ، أو تأخّرهم عن الزواج ، وانشاء الأسرة ، أو عجزهم عن تحمُّل مسؤولية أُسَرِهِم .

أضرار البطالة :

تفيد الإحصاءات العلمية أنَّ للبطالة آثارها السيئة على الصحة النفسية ، كما لها آثارها على الصحة الجسدية ، إنَّ نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل يفتقدون تقدير الذات ، ويشعرون بالفشل ، وأنهم أقلُّ من غيرهم .
كما وُجِد أن نسبة منهم يسيطر عليهم الملل ، وأنَّ يقظتهم العقلية والجسمية منخفضة ، كما أن البطالة تُعيق عملية النمو النفسي بالنسبة للشباب الذين ما زالوا في مرحلة النمو النفسي .
كما وجد أن القلق والكآبة وعدم الاستقرار يزداد بين العاطلين ، بل ويمتد هذا التأثير النفسي على حالة الزوجات ، وأنَّ هذه الحالات النفسية تنعكس سلبياً على العلاقة بالزوجة والأبناء ، وتزايد المشاكل العائلية .
وعند الأشخاص الذين يفتقدون الوازع الديني ، يقدم البعض منهم على شرب الخمور ، بل وَوُجد أن 69% ممّن يقدمون على الانتحار ، هم من العاطلين عن العمل ، ونتيجة للتوتر النفسي تزداد نسبة الجريمة ، كالقتل والاعتداء بين هؤلاء العاطلين .
ومن مشاكل البطالة أيضاً هي مشكلة الهجرة ، وترك الأهل والأوطان التي لها آثارها ونتائجها السلبية ، كما لها آثارها الإيجابية .
والسبب الأساس في هذه المشاكل بين العاطلين عن العمل هو الافتقار إلى المال ، وعدم توفّره لِسَد الحاجة ، إن تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ ، لا سيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية ، ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة ، يؤدِّي إلى أن ترتدَّ عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسياً ، مسببة له مشاكل كثيرة .
وتتحول البطالة في كثير من بلدان العالم إلى مشاكل أساسية معقَّدة ، ربما أطاحت ببعض الحكومات ، فحالات التظاهر والعنف والانتقام توجَّه ضد الحكّام وأصحاب رؤوس المال ، فهم المسؤولون في نظر العاطلين عن مشكلة البطالة .

تسويق الذات وتنمية القدرات.. مفتاح الشاب للحصول على الوظيفة المناسبة

بالتأكيد أن الحاجة إلى العمل شيء رئيس وأساسي، ذلك أنها خطوة أولى مهمة لكثير من الأشياء اللاحقة، وربما يتصور بعض الشباب أن الدراسة الجامعية طريق للحصول على عمل، وهي فرضية تنفيها بالتأكيد نسب العاطلين من الجامعيين، وفي دول العالم المتقدمة لا يزيد في الغالب عدد الملتحقين بالجامعة من خريجي الثانوية العامة عن 35% بل إن دولة مثل سويسرا لا يزيد عدد الملتحقين بالجامعة عن 15%، والبقية يتوجهون إلى سوق العمل حيث الدخول مباشرة في المهنة، وليس سراً أن عدد من المهن لا تحتاج لتأهيل كبير بقدر حاجتها إلى ممارسة، وهذا ما يوفره سوق العمل، ومع الأسف فإن فئة كبيرة من شبابنا تنظر للدراسة الجامعية نظرة بعيدة عن كونها بغية زيادة التأهيل العالي، بدليل أن قرابة 50% منهم إما يتعثرون في دراستهم أو يتخرجون بنسب ضعيفة جداً، فالمسألة إذن قائمة على حاجة الشاب للمكافأة الجامعية، والتي يعتبرها (مصروفاً) مهماً في هذه المرحلة حتى يتحسن الوضع ويتقدم الوقت وتكون لديه فرص أكبر.

والشاب الذي لم يوفق في القبول في الجامعة، بالتأكيد أن هذه ربما تعتبر فرصة سانحة له في تطوير قدراته ومواهبه، واقتحام سوق العمل بكل قوة، سواء أرغب مستقبلاً في تكرار تجربة التقدم للجامعة إن كان لديه ثمة طموح.

ومشكلة الشباب لدينا ليست في قلة الوظائف، بل هي في التوجيه من الآخرين لكيفية الحصول عليها، وتنمية (القناعة) الداخلية بالفرص القليلة التي يجب انتهازها والاستفادة منها، وهذا بالتأكيد هو دور الوالدين، حيث إن بناء فكرة (الوظيفة المفتاح) بأن هذا العمل غير الجيد في نظره ما هو إلا وسيلة للحصول على وظيفة أعلى ومنصب أكبر، وكمثال على ذلك بعض الوظائف الفنية التي بمجرد اكتساب الشاب لمهاراتها قد يتمكن من الحصول على قرض من الصناديق التي تدعم الشباب وبالتالي يتحول من مجرد موظف إلى صاحب مشروع.

كذلك يجب على الشاب أن يقتنع بأنه هو من يجب عليه أن يسوق ذاته، ويقنع الآخرين بقدرته على العمل والنجاح وهذه من أبرز الملاحظات التي لمستها من الشباب حين التعريف بالذات سواء في الكلية أو في الدورات التدريبية، حيث يعجز الشاب عن وصف نفسه وما يملك من قدرات ومواهب، هي بالتأكيد موجودة لكنه يشعر في أحيان أنها غير جديرة بالذكر ولذا لا يذكرها، أو أنه يرى أن ذلك من باب مدح النفس أو الغرور، وبعضهم قد يردد (مادح نفسه كذاب) أو يفهم معنى التواضع بغير معناه فيفسره بأنه (إنكار) للذات..!!

إذن، من الخطوات الرئيسة منح الشباب القدرة على (رؤية) أنفسهم بصورتها الصحيحة، وكمثال نجد أن كثيراً من الشباب يتقن التعامل مع الإنترنت ولكنه لا يذكر ذلك حينما يقدم إما خوفاً من المقابل أو عدم شعور منه بأنه مهم، ما أود أن أصل إليه أن الشاب لابد أن يسوق نفسه وبقوة في حال توفر لديه ولو قدر يسير من المهارات.

على الجانب الآخر، مهم أن يبدأ الشاب في بناء ذاته وتنميتها، والتعرف على العلوم الجديدة، وتنمية ثقافته بالاطلاع والمتابعة، فكثير من الشباب تتوفر في بيوتهم أجهزة حاسب آلي، أو يتواصلون مع الإنترنت، ومهم في هذه المرحلة أن يغير الشاب من نظرته لها، فالحاسب لا يجب أن يظل مجرد جهاز يلجأ له عند الحاجة، بل لابد أن يتواصل معه ويتعرف على أسراره وبرامجه ويتقن ما هو مهم ومطلوب منها، كذلك الإنترنت بإمكانه أن يجد لنفسه عملاً أو مجالاً يدر عليه دخلاً جيداً من خلاله، أو على أضعف الإيمان جعله وسيلة لتسويق ذاته والتعرف على فرص العمل المتاحة، والأهم من ذلك جعله وسيلة لكسب المعلومة والخبرة من خلال ما ينشر في المواقع.

بالتأكيد فإن المشكلات الناتجة عن الفراغ كثيرة وخطيرة في ذات الوقت، فيكفي من الفراغ أنه يمنح الشاب فرصة لصرفه في مصارف خاطئة، كالجلوس مع الشباب في الاستراحات والتي تعتبر بعضها بذرة سيئة لأعمال أخرى قادمة، كمشاهدة الفضائيات وإدمان الدخان، وربما السفر إلى الخارج، وهذه بالتأكيد ستجعل الشاب يبحث عن مصدر مالي ليؤمنها لنفسه، وقد تنشأ مشكلة كبرى بالضغط على أهله أولاً لتمويله ثم محاولة (سرقتهم) وربما يتطور الأمر إلى سرقات منظمة كما هو حال الجرائم التي يقبض عليها بين آونة وأخرى والتي لا تزيد أعمار اللصوص فيها عن 24 سنة..!

كما أن عدم العثور على وظيفة تتسبب بإحباط كبير للشاب، الذي أمضى سنوات طويلة في ميدان الدراسة مجتهداً مثابراً، انتظر تخرجه ليستلم وظيفة خاصة به، والإحباط يؤثر على الشاب ربما بوجود انحراف أخلاقي لديه، كما أن الفراغ سيجعل الشاب من غير هدف أو قصد يبحث عنه، وسيكون بذلك تعامله مع الأهل في المنزل متوتراً مشحوناً لأنه يشعر في قرارة ذاته بالعجز، وربما الشفقة منهم.

أما كيف يتم التعامل معها، فهنا دور الوالدين، بحيث يعملان على ملء فراغ الشاب داخل المنزل، بتكليفه بأعمال ومهام، كمراجعة البنوك، والتعقيب عند الدوائر الحكومية، وتأمين حاجيات ومتطلبات المنزل، مما يشعره أولاً بدور في المنزل، وثانياً بإبعاده عن التفكير والتأمل بوضعه، وثالثاً بإكسابه مهارات يحتاجها في الحياة، بل ربما تفيده في التسويق لذاته من خلال التعرف على الآخرين وبيئات عملهم.