موارد بشرية

هل التنمية البشرية هراء حقاً أم أن بعض المتطفلـين هم الذين جعلوها كذلك؟

هل التنمية البشرية هراء حقاً أم أن بعض المتطفلـين هم الذين جعلوها كذلك؟

كم يؤلمني أننا أصبحنا نعيش في أوساط اجتماعية يختلط فيها الصالح بالطالح، عاد من الصعب معرفة الحقيقة من الزيف وأحيانا يبدو أنهما مُمتزجان معاً، ولكننا نعرف جيداً أن الكتاب لا يُقرأ من عنوانه، فالتسرع في الحكم على شيء ما وإطلاق وابل من الانتقادات دليل على السطحية في الرؤية العامة للأمور، نحن نعيش في مجتمعات حيث نعشق أن نتصيـد النقائص وحتى إن كانت قليلة جداً، فإننا نضعها تحت المجهر لتبدو ضخمة وخطيرة مثل فيروس، فنضرب عرض الحائط كل الجوانب الإيجابية.

للأمانة العلمية فقط… فلنتفق حول هاته المفاهيم أولاً

مصطلح التنميـة البشرية له معاني واستعمالات مختلفة وغالبا ما تقع بعض المغالطات لدى العامة من الناس حول هذا الموضوع، ومن أجل توضيح بعض النقاط البسيطة سأتطرق إلى تعريف بعض المفاهيم ذات الصلة؛

تنمية الموارد البشرية؛ ولهذا المفهوم بعد اقتصادي وظهر بعد الحرب العالمية الثانية حيت تخلصت العديد من الأمم من ويلات الاستعمار الأجنبي فكان التحدي الأكبر إلى جانب تكوين كيان سياسي مستقل هو إيجاد استراتيجيات تنموية من أجل تدريب وتوفير الطاقات والموارد البشرية من اليد العاملة ذات الخبرة للنهوض اقتصادياً والرفع من مستوى الإنتاج.

التطوير الذاتي؛ يقول المفكر والمحلل النفسي الألماني كارل يونغ « حتى تجعل ما هو لا واعي يصبح واعـياً، فسيظل يوجّــه حياتك وستُسميه مصير »، وهذا هو قلب هذا المفهوم أي السعي الواعي وبإرادة قوية لتنمية المهارات الشخصية من خلال توسيع نطاق المعرفة بالقدرات الحقيقية للذات.

وانطلاقاً من هاذين المفهومين، سوف نرى أن مصطلح التنمية البشرية بحد ذاته مُتطور وشامل لما هو اقتصادي سياسي فمن جهة نجد بأن مؤشر التنمية البشرية للدول (I D H) يقاس منذ 1990 من طرف برنامج الأمم المتحدة بالاعتماد على ثلاث مُعطيات وهي؛ متوسط أمد الحياة، نسبة التمدرس لدى البالغين ومستوى الدخل الفردي.

أما من ناحية أخرى فالمفهوم ذاته تطور وخرج عن رؤيته التقليدية ليركز أكثر على الأفراد لا الأنظمة الاقتصادية فقط، كمرحلة أخرى في قطار تطور الأمم بشكل عام، وقد استفاد هذا المجال أكثر من غيره من مساهمات فكرية وعلمية متنوعة كالفلسفة، الفيزياء وعلم النفس وخاصة الشق الإيجابي منه الذي هو عكس علم النفس التقليدي الذي ركز على دراسة الأمراض والاعتلالات العقلية، فهو يبحث في العوامل التي تجعل من أشخاص عاديين يحققون ذواتهم ويستمتعون بحياة أكثر سعادة. العلماء، عمالقة التحليل النفسي والمفكرين كفرويد نفسه، ابراهام ماسلو، يونغ وإريك فروم وغيرهم الذين أغنوا هذا العلم ببحوثهم ومؤلفاتهم عن الشخصية، الصحة النفسية والتحفيز الذاتي وضعوا الأسس والمبادئ التي يعتمدها أغلب مدربي التنمية البشرية حول العالم اليوم.

التخصصات والتدريبات في التنمية البشرية يمكن أن تشكل الحجر الأساس لمهن في مجالات التمريض، الصحة العامة والاستشارات، ويعتمد رواد الأعمال وكبرى الشركات على تقديم فرصة الاستفادة من دورات التنمية الذاتية لموظفيهم من أجل خلق بيئة عمل سليمة وتحفيز ملكة الإبداع والقيادية.

أشخاص لن تنفع معهم التنمية البشرية في شيء!

التنمية البشرية ليست من أجل الجميع على الأقل في مرحلة معينة من حياتهم وليس جميع الناس مهتمون بإنشاء مشروعهم الخاص، القيادة أو تعلم أي شيء على الإطلاق، الاستعداد النفسي والعاطفي لفكرة التغيير من الداخل إضافة إلى القدرة الذهنية على تقبل وتبني ما هو جديد مخالف لسنوات وأجيال من الوعي الجمعي الموحد هي كفاءات ضرورية حتى نستطيع أن نستفيد من احتمالات لا نهائية من وسائل التطور الذاتي.

الأشخاص في حالة اكتئاب حاد لن تنفعهم لا دورة ولا كتب أو استشارات لتطوير قدراتهم، بكل بساطة لأنهم يحتاجون لتدخل سريع من طرف طبيب نفس وعقاقير خاصة لمساعدتهم على الخروج أولاً من فقاعة العذاب والتآكل الداخلي الذي يعيشونه، جرعات التنمية الذاتية سوف تكون إما مهدئ مؤقت أو كمن يصب الزيت في النار!

أشخاص بأعراض اضطراب ثنائي القطب أو أي خلل نفسي أو عقلي آخر من شأنه أن يُعيق التقييم المنطقي السليم للأمور.

الأفراد المُتعصبون لفكر معين ولا يقبلون التغيير لأنهم لا يرون ضرورة لذلك.

الأشخاص الماديين وسطحيو التفكير والميول يبحثون عن الجوانب الملموسة في كل أمر فاكتشاف ذواتهم أو تحرير المارد بداخلهم كما يقال لن يقنعهم، لأن النتائج السحرية السريعة هي ما يبحثون عنه.

المدمنون على النقد من أجل النقد وعشاق السخرية السوداء وكارهي كلمة « إيجابي »، يستلذون بالانتقادات اللاذعة ويتغذون نفسياً عليها بشكل دائم تحت قناعة صنع الاختلاف، وأصل ذلك انجرافهم في حالة خفية من الذُعر خوفاً من احتمال الانسياق مع ما يُعرف بعقلية القطيع وبالتالي فقدان الحرية والاستقلال الفكري فتكثر الفلترة الذهنية لديهم أكثر من اللازم ويحرمون أنفسهم من تعلم الكثير من الأمور البسيطة التي من شأنها تحسين نوعية حياتهم.

العقلانيون على حساب مصلحتهم الذين يميلون إلى إيجاد جواب مُحدد وواضح لكل سؤال ومُعضلة في العلم، وواقع الحال أن ما توصل له بنو البشر لحدود الساعة من علوم واكتشافات لم يُجب عن معظم الأسئلة الشائكة.

المُصابون بجنون العظمـة مقتنعون جداً بأنهم كاملون بمعارفهم وقناعاتهم، فكرة أن يُنظّر عليهم شخص ما كيف ما كانت خلفيته ورصيده المعرفي تكسر صورتهم الشخصية فلا يتحملون سماع أو قراءة كلمة واحدة مما يسمونه خزعبلات التنمية البشرية والتطوير الذاتي حتى لو عَلموا أنها صحيحة وستفيدهم.

إذن من يستطيع أن يستفيد فعلاً من التنمية البشرية في حياته الشخصية والمهنية ولو كانت مجرد هُراء؟!

هو كل شخص يتمتع بنسبة من السلامة العقلية والصحة النفسية، معدل متوسط من الذكاء العاطفي، يمتلك صفة التواضع والقدرة على الاعتراف بالخطأ، الفضول والرغبة في الاستمرار بالتعلـم من المصادر المختلفة وهي مهارة شخصية نادرة جداً لأن مجتمعاتنا أصبحت أكثر من أي وقت مضى تعج بالأحكام المسبقة، الإعدام والنسف لتجارب ودراسات آخرين إذا ما اتضح أنهم يختلفون عنا في نقطة أو نقطتين أو حتى إذا لم نستسغ طريقة لبسهم، حديثهم وأحياناً حتى نبرة صوتهم! وأخيراً كل من يحمل في روحه ذرة إيمان بالتنوع الثقافي للإنسانية وقدرتها على صنع المستحيل مهما كان حجم الاختلافات.

مما لا شك فيه أن مجموعة من المدربين وأصحاب الشواهد المشكوك في مصداقيتها الذين استفادوا من دورات تدريبية قصيرة الأمد قد تصل ليومين من الزمن في بعض الأحيان! يُسيئون لمجال التنمية البشرية، لذلك سوف يتطرق الجزء القادم من المقال إلى جانب مواضيع أخرى ذات صلة… إلى تلك الهفوات التي يقع ضحيتها هؤلاء فتجعلهم يظهرون في صورة الدجاليـن الذين يبيعون الهواء وبالتالي يُساهمون في خلق المزيد من التشويش والآراء السلبية حول المجال نفسه، فمن يرغب في تطوير حياته والاستفادة من الثورة العلمية والمعلوماتية والمصادر المجانية المفتوحة والمدفوعة كذلك ـ لما لا إن كان الأمر يستحق، عليه فقط أن يعطي نفسه الفرصة للبحث في المكان المناسب.